كانت لنا أيّام... في أم القُرى
كانت لنا أيّام... في أم القُرى في قلب ولاية الجزيرة، بين الطين والخُضرة ورائحة المحاصيل، عشت أيامًا لا تُنسى... في قرية اسمها "أم القُرى"، لكنها لم تكن قرية واحدة، بل كانت وطنًا صغيرًا يحتضن أرواحًا من كل مكان، وألفةً نادرة لا تشبه سواها. كنا نعمل قرب سوق الماشية، وهناك، على أطراف السوق، صف من الدكاكين الصغيرة، كل واحدة تحكي حكاية. نساء طيّبات يبعن الشاي والقهوة، وأخريات يطهين الطعام ببساطة فيها نكهة البيت. وبعض تلك الدكاكين لم تكن للبيع، بل لتخزين المحاصيل، فهذه الأرض تفيض بالزرع والرزق. كانت الأجواء في الخريف ساحرة، بطينها الذي لا يزعج، بل يشعرك أنك تنتمي للأرض فعلاً. غير أن الماء لم يكن صالحًا للشرب — "ما ترعة" كما نقول — لكنّ الحياة هناك كانت أعذب من كل شيء. سكان أم القرى خليط جميل من كل أنحاء السودان، يجمعهم شيء واحد: طيبة لا تصدّق، وكرم فوق التصوّر. من يأتي ضيفًا، يُستقبل كأحد أبناء البيت، ويُكرَم بلا سؤال أو انتظار مقابل. في موسم الحصاد، كانت الحياة تنبض كل صباح. رجال، نساء، وحتى الأطفال، يقفون منتظرين فرصة عمل في الحقول. والبعض الآخر يعمل مباشرة في الزراعة، حسب اتفاق مع أصحاب الأرض. الناس يأتون من القرى المجاورة في الصباح الباكر، ويغادرون عند المغيب، حيث يقفل سوق أم القُرى، وتعود القرية إلى سكونها الريفي البديع. ولمن يحب الصيد، أو يتأمل الطبيعة، فإن أم القُرى جنة صغيرة... مناظرها تسحر العين وتشرح الصدر. ولا أنسى صديقنا العزيز، عبدالله ضحوي. رجل من كرم نادر. ما إن يراك، حتى ينده لك بصوته الجهوري، يدعوك لتذوق من ضيافة لا تنضب. ضحوي... اسم قريته التي يسكن فيها، واسمٌ يُلازم الكرم كما يُلازم الرجل الطيب وجهه البشوش. وفي كل مناسبة — مهما كان وقتها أو حجمها — تجد كرمًا لا ينتهي إلا بانتهاء المناسبة، وكأنّهم يسقون الضيف حتى يرتوي من المحبة، لا من الطعام فحسب. هذه بعض من تفاصيل قرية عظيمة اسمها "أم القُرى"... تفاصيل لا تُكتب فقط، بل تُعاش، وتبقى حيّة في القلب مهما ابتعد الزمان والمكان.
✍️ مزمل عثمان
"الذاكرة ليست مجرد خزانة للحنين... بل نافذة نطلّ منها على أجمل ما عشناه."
تعليقات
إرسال تعليق