لماذا هذا ؟

لماذا هذا؟

في لحظات الهدوء النادرة، حين ينسحب الضجيج قليلًا من حولنا، يظهر سؤال ثقيل في داخلنا يثقل كاهلنا ويجعلنا نتوقف للحظة نتأمل: لماذا هذا؟ لماذا نشعر بالفراغ رغم الامتلاء؟ لماذا فقدت الأشياء معناها؟ ولماذا أصبح القرب من الناس مرهقًا، لا مريحًا؟ تلك المشاعر التي تعصف بنا من الداخل، تجعلنا نشعر بأننا في عالم لا ينتمي لنا.

في عالم متسارع لا يتوقف، تسير الأيام بسرعة البرق، تغيب عنا أشياء كثيرة كنا نظنها دائمة، كأنها أشياء من زمن بعيد لا يعود. نبحث بلا كلل عن دفء قديم، عن بساطة اختفت بين ضجيج التكنولوجيا والتقنيات، عن حديث صادق لا يُحسب فيه عدد الكلمات ولا يُقاس بمقدار الرد، بل يُحس بالقلب. نشتاق للأيام التي كنا فيها نحن بلا أقنعة، بلا حسابات، بلا خوف من الفهم الخاطئ أو الأحكام الجائرة.

نخشى الآن أن نُفصح، أن نُخطئ، أن نكون ضعفاء. نخشى أن نقول: "أنا متعب" فيظنونا دراما، أو نقول "أحبك" فيُساء الظن، أو نُبادر فيُفسَّر ذلك على أنه احتياج مفرط أو ضعف لا يُحتمل. فلماذا أصبحنا نكتم كل شيء ونبدو بخير بينما في داخلنا عاصفة من المشاعر المتضاربة؟

حين اخترنا الصمت

ربما لأننا جُرحنا مرارًا، تلك الجروح التي لم تُشفى بعد، من صديق لم يسمع، أو قريب لم يشعر، أو حتى من أنفسنا حين اخترنا الصمت بدل المواجهة الصعبة. اخترنا أن نبدو أقوياء، لكن الحقيقة أننا نشتاق لحضن دافئ، لصوت يقول: "أنا معك، افصح كما أنت، دون خوف أو تردد."

من يسمعنا بصدق

الحياة صعبة، نعم. لكن الأصعب أن نمرّ بها دون أن نشعر أن أحدًا يفهمنا حقًا، دون أن نجد من يسمعنا بصدق. الأصعب أن نحارب يوميًا وحدنا بينما نبتسم في الخارج، نُخفي وراء ابتسامتنا أعباءًا كبيرة. أن نكون متاحين للجميع ولا أحد يسألنا: "كيف حالك حقًا؟" تلك الكلمات البسيطة التي قد تُغير كل شيء.

لماذا هذا؟ لأننا نعيش في زمن يُقدّر النجاح أكثر من السلام الداخلي، يُكافئ الإنتاج لا المشاعر، ويُشجع على المثالية دون أن يمنحنا فرصة أن نكون بشرًا بكل عيوبنا وأخطائنا. نحن نُخفي ما يؤلمنا، ونتحدث فقط عن النجاح، عن الإنجازات، عن المظاهر. وهذا مرهق للغاية، يجعلنا نشعر بأننا نعيش حياة غير حقيقية، حياة مليئة بالأقنعة.

رسائل لم ترسل

في قلوبنا، هناك مئات الكلمات غير المنطوقة، رسائل لم تُرسل، دموع لم تُرى. وهناك، في أطراف الليل حين يسكن العالم ويغفو الجميع، نتمنى لو يعود أحدهم ويقول: "أنا آسف، أنا هنا، لم أقصد أن أرحل." لكن ذلك نادر، فنتعلم أن نحمل خيباتنا وحدنا، نصنع من الألم قوة، ومن الوحدة صبرًا.

دائرة الصمت

ولكن، ماذا لو بدأنا نحن؟ ماذا لو كنا من يبادر ويكسر دائرة الصمت؟ لو قلنا بصراحة "أنا أفتقدك" دون خوف من الرفض؟ لو اعتذرنا حين نُخطئ، وعبرنا عن مشاعرنا دون تردد أو خجل؟ أليست هذه هي البداية الحقيقية للشفاء، لبناء جسور جديدة من الثقة والصدق؟

الحياة قصيرة 

الحياة قصيرة، لا تنتظرنا طويلاً. دعونا نُبادر، نحب بقلوب صادقة، نعتذر بصدق، نُسامح من أعماقنا، نُعبّر عن مشاعرنا بكل جرأة. نكون لطفاء مع الآخرين، ومع أنفسنا أيضًا، لأن القسوة ليست شجاعة، والصمت لا يُنقذ، والجدران التي نبنيها حولنا لا تحمينا، بل تعزلنا عن العالم وعن أنفسنا.

خاتمة

في النهاية، "لماذا هذا؟" هو صرخة داخلية تبحث عن دفء، عن إنسانية، عن عودة لما كنا عليه من صدق، وبساطة، وقرب حقيقي. فلتكن هذه الكلمات بداية جديدة، ولنتذكر دائمًا: لا بأس أن نكون بشرًا، وأن نُظهر ضعفنا، وأن نطلب المساعدة، لأن في ذلك قوة عظيمة.

تعليقات