عبد الله الطيب.. عبقرية سودانية نحتت مجدها بالكلمات

عبد الله الطيب.. عبقرية سودانية نحتت مجدها بالكلمات

في سجلّ الثقافة السودانية، هناك شخصيات تتجاوز حدود الزمان والمكان، تشعّ بفكرها وإرثها، وتترك أثرًا لا يُمحى في الوجدان الجمعي. ويأتي البروفيسور عبد الله الطيب في مقدمة هؤلاء، بوصفه أحد أعلام الأدب العربي في السودان والعالم العربي، ومفكرًا فذًا جمع بين عبقرية التحليل الأدبي وبلاغة البيان الشعري وعمق الفهم التراثي. لم يكن عبد الله الطيب مجرد أستاذ جامعي ولا شاعرًا متفرغًا، بل كان مشروعًا ثقافيًا متكاملًا يعكس هوية أمة، وصوتًا ناطقًا بلسان اللغة العربية الفصيحة في زمان بدأت فيه هذه اللغة تفقد بريقها في ساحات العلم والتعليم.

النشأة والبدايات

وُلد عبد الله الطيب في عام 1921 في قرية التميراب بمنطقة نهر النيل، وسط بيئة ريفية سودانية أصيلة، عُرفت بتمسكها بالتقاليد والدين والتعليم. حفظ القرآن الكريم في سن صغيرة، وكان لذلك الحفظ المبكر أثر بالغ في صقل لغته وتشكيل إحساسه العميق بجماليات التعبير العربي. التحق بمدرسة وادي سيدنا الثانوية، ومنها انطلق إلى العالمية عندما نال منحة للدراسة في المملكة المتحدة، حيث التحق بجامعة لندن وأعدّ أطروحته الأكاديمية حول تأثير الأدب العربي على الشعر الإنجليزي، وهي دراسة نادرة في زمانها، أبرزت نظرته المقارنة بين الثقافات، ووعيه المبكر بالصلات بين الحضارات.

بين إذاعة أم درمان وقلوب السودانيين

لم يكن عبد الله الطيب غائبًا عن وجدان الناس، فقد أصبح اسمه مألوفًا لدى عامة الشعب السوداني من خلال برنامجه الإذاعي الشهير «من نافذة التاريخ»، الذي استمر في تقديمه لعشرات السنين. بأسلوبه الساحر، وصوته الرخيم، وسرده المشوّق، أعاد تشكيل علاقة المستمع العادي بالتاريخ والأدب. لم تكن الحلقات مجرد محاضرات، بل جلسات وعي تنساب إلى الأذهان بيسر، فتبني مع كل حلقة لبنة في جدار الذاكرة الثقافية للسودانيين.

"المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها"

يُعد كتابه الموسوعي "المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها" من أبرز أعماله النقدية، وهو نتاج سنوات من التأمل والبحث في الشعر العربي، خاصة الجاهلي منه. في هذا العمل، تجاوز عبد الله الطيب حدود التحليل الكلاسيكي ليقدم قراءة شاملة تستند إلى الذوق العربي الخالص، والعلم اللغوي الدقيق، والربط الحضاري العميق. وقد أسهم هذا الكتاب في ترسيخ اسمه في أوساط النقاد والدارسين خارج السودان أيضًا.

رجل التعليم والتأسيس

في حياته الأكاديمية، شغل عبد الله الطيب مناصب عديدة، أهمها عمادة كلية الآداب بجامعة الخرطوم، كما كان أول مدير لجامعة جوبا. شارك أيضًا في تدريس اللغة والأدب العربي في عدد من الجامعات العربية، من بينها جامعة محمد بن عبد الله بمدينة فاس المغربية. وكان من بين أوائل من دعوا إلى تعريب المناهج الجامعية، وقد خاض معارك فكرية كثيرة دفاعًا عن هذا المبدأ. وكان يرى أن اللغة العربية ليست عائقًا أمام التقدم العلمي، بل أداة ضرورية لفهم المعرفة وهضمها ضمن سياقنا الثقافي.

الشاعر الذي كتب بحبر الروح

كتب عبد الله الطيب الشعر منذ صباه، وامتاز شعره بالجمع بين القوة اللفظية والشفافية الشعورية. لكنه لم يكن شاعرًا غزير الإنتاج، بل انتقى قصائده بعناية كأنما ينقشها نقشًا. ومن أشهر قصائده تلك التي كتبها في رثاء زوجته "جريزلدا"، وهي الباحثة الإنجليزية التي ساندته في مسيرته الأكاديمية، وأحبته حبًا عميقًا. في رثائها، كتب قصائد تمزج الألم بالوفاء، منها هذه الأبيات:

كنتِ بردًا وكان قلبي شتاءً
ثم صيفًا حين أقبلتي شعاعًا
كنتِ نورًا وكان ليلي طويلًا
ثم صرتِ الدعاءَ حين ضاعا

هوية لا تنكسر

كان عبد الله الطيب من المنافحين عن الهوية السودانية المستقلة. لم يكن منغلقًا على العروبة فحسب، بل كان يرى السودان في عمقه الأفريقي والعربي والإنساني. دعا إلى توطين المعرفة، وإلى قراءة التراث قراءة معاصرة. وكان من أوائل من ربطوا بين علم اللغة، والقرآن الكريم، والشعر الجاهلي، مما أعاد تشكيل فهم الكثيرين لبنية اللغة العربية.

تكريم محلي وعالمي

نال عبد الله الطيب العديد من الأوسمة والجوائز، منها وسام الآداب والفنون من الطبقة الأولى من جمهورية مصر العربية، ووسام الجمهورية من السودان، بالإضافة إلى الدكتوراه الفخرية من عدد من الجامعات. وقد تم إطلاق اسمه على قاعات ومراكز بحث في أكثر من مؤسسة، تخليدًا لإسهاماته الفريدة.

رحيل الجسد، وبقاء الأثر

توفي عبد الله الطيب في عام 2003، لكن إرثه الفكري لا يزال حيًا، يُدرّس، ويُستشهد به، ويُلهم الباحثين والطلبة. كتبه، ومقالاته، وخطبه، وبرامجه، كلها مواد باقية تُمثل مرجعًا مهمًا لفهم تطور اللغة والفكر في السودان. وما زالت الجامعات تقيم الندوات عنه، وتُعاد إذاعة حلقاته، ويكتب عنه المثقفون كرمز أصيل للثقافة السودانية.

خاتمة

في عالمٍ تتراجع فيه القامات الفكرية، يظل عبد الله الطيب أحد الأعمدة الراسخة، التي تبني وتثبت وتلهم. لم يكن مجرد أستاذ لغة، بل كان ضمير أمة، ورؤية ثقافية كاملة. ورغم مرور السنين، لا تزال كلماته تنبض بالحياة، ولا يزال اسمه يتردد في مجالس الفكر، كأنما لم يرحل.

تعليقات