على هامش الذاكرة

على هامش الذاكرة

قصة قصيرة عن الحنين

الذاكرة

ليست مجرد صندوق مغلق نحتفظ فيه بصور وأحداث، بل هي كائن حي يتنفس في أعماقنا، يطل علينا في لحظات السكون، ويعيد رسم ملامح أيام مضت. أحيانًا، يكفي مشهد عابر أو رائحة مألوفة ليوقظ فينا حنينًا دفينًا، ويعيدنا إلى أماكن وأشخاص لم يعودوا جزءًا من حاضرنا، لكنهم يسكنون تفاصيلنا الصغيرة. في هذه القصة القصيرة، أروي لكم حكاية الحنين الذي يطل من هامش الذاكرة، ويمنحنا معنى جديدًا للحياة.

نافذة تطل على الماضي

كنت أجلس كل صباح إلى نافذتي المطلة على الشارع القديم. هناك، حيث تتقاطع خطوات المارة مع ضوء الشمس الخجول، اعتدت أن أرى امرأة مسنّة تحمل حقيبة جلدية بنية اللون. لم أكن أعرفها، لكنها أصبحت جزءًا من روتيني اليومي، كأن حضورها يربط بين يومي وأيام مضت. كانت خطواتها بطيئة، لكن في عينيها بريق حكايات لا تنتهي.

في أحد الأيام، وبينما كنت أراقبها من بعيد، تذكرت جدتي التي رحلت منذ سنوات. كانت تحمل حقيبة مشابهة، وتحب السير في الصباح الباكر. شعرت أن الزمن يدور في حلقة، وأن الماضي يطل عليّ من نافذة الحاضر.

رائحة الخبز وصوت الضحكة

في تلك اللحظة، غمرتني موجة من الذكريات. تذكرت صباحات الطفولة في بيت جدتي، رائحة الخبز الطازج الذي كانت تخبزه بيديها، وصوت ضحكتها الدافئة وهي تروي لي حكايات عن أيام زمان. كنت أجلس بجوارها، أراقب يديها وهما تعجن العجين، وأشعر بالأمان في حضنها.

مرت السنوات، وتغيرت البيوت والوجوه، لكن تلك اللحظات بقيت محفورة في أعماقي. أدركت أن الحنين ليس مجرد شعور عابر، بل هو جسر يصل بيننا وبين من أحببناهم، حتى وإن غابوا عن حياتنا.

رسالة من الماضي

في أحد الأيام، جمعتني الصدفة بتلك المرأة المسنّة في متجر الحي. كنت أبحث عن بعض الحاجيات حين التقيت بنظراتها. ابتسمت لي ابتسامة دافئة، وقالت بصوت هادئ: "تذكّر دائمًا أن الذكريات هي أثمن ما نملك." شعرت أن كلماتها رسالة من الماضي، كأنها جاءت لتؤكد لي أن الحنين قوة تمنحنا الدفء في أيام الوحدة.

تبادلنا حديثًا قصيرًا عن الأيام الخوالي، وعن كيف تغيرت الحياة بسرعة. أخبرتني أنها فقدت الكثير من أحبائها، لكنها تجد في الذكريات عزاءً وسلوى. قالت: "كلما شعرت بالوحدة، أفتح حقيبتي القديمة وأتصفح الصور والرسائل، فأشعر أنني لست وحدي."

الحنين في تفاصيل الحياة

بعد ذلك اللقاء، بدأت ألاحظ كيف أن تفاصيل الحياة اليومية تحمل في طياتها بقايا من الماضي. فنجان القهوة الصباحي يذكرني بوالدي، ورائحة المطر تعيدني إلى أيام المدرسة. حتى الأغاني القديمة التي أسمعها صدفة في الراديو، تفتح لي أبوابًا من الذكريات.

أدركت أن الحنين ليس ضعفًا أو هروبًا من الواقع، بل هو اعتراف بقيمة ما عشناه، وامتنان للأشخاص الذين مروا في حياتنا. هو ذلك الشعور الذي يجعلنا أكثر إنسانية، وأكثر قدرة على فهم أنفسنا والآخرين.

بين الألم والدفء

ليس من السهل دائمًا مواجهة الحنين. أحيانًا يأتينا في لحظات ضعف، فيجعلنا نذرف الدموع على من رحلوا أو على أيام لن تعود. لكنه في أحيان أخرى يمنحنا قوة غريبة، ويعيد إلينا الأمل بأن القادم أجمل.

تعلمت أن أحتضن الحنين بدلًا من مقاومته. أسمح لنفسي بالبكاء حين أحتاج، وأبتسم حين أتذكر لحظة سعيدة. أكتب رسائل إلى من أحببتهم ولم يعودوا هنا، وأحتفظ بها في دفتر صغير على هامش الذاكرة.

خاتمة

الحنين هو ذلك الزائر الذي يأتي دون موعد، يفتح لنا أبواب الذاكرة ويعيدنا إلى حيث كنا سعداء. ربما لا نستطيع العودة إلى الماضي، لكننا نستطيع أن نحمل ذكرياته في قلوبنا ونمضي بها نحو المستقبل. في كل صباح، حين أرى المرأة المسنّة تمر أمام نافذتي، أبتسم وأدعو في سري لكل من أحببتهم، وأشكر الحياة على الهدايا الصغيرة التي منحتني إياها على هامش الذاكرة.

تعليقات