صوت من خلف الجدار

 

alt="دار مهجورة مغطاة بالنباتات في حي قديم غامض"

صوت من خلف الجدار

الحي القديم والدار المهجورة

في أعماق الحي القديم، حيث تتشابك الأزقة الضيقة كأوردة متصلبة في جسد الزمن، تقبع دار عتيقة تستكين في صمت مطبق. لا يلتفت إليها المارة إلا لحظة خاطفة، كأنهم يخشون أن تطيل نظراتهم المقام فتستدعي شيئًا من تاريخها الخفي. جدرانها السميكة، التي اكتست بلون الرصاص الداكن بفعل عوامل الجو وتقلبات السنين، تحمل ندوبًا من تقشر الطلاء، تكشف عن طبقات باهتة تروي حكايات مهجورة. نوافذها، خلف الستائر البالية التي تمزقت أطرافها بفعل الرياح العابثة، تبدو مغلقة بإحكام، كأنها تحجب سرًا دفينًا عن أعين المتطفلين. أما الباب الأمامي، المصنوع من خشب متيبس تزينه مسامير صدئة، فيظل مواربًا في أغلب الأحيان، أو مغلقًا بقفل قديم يوحي بالهجر والنسيان.

تتسلق النباتات البرية، من ياسمين بلدي ذي الرائحة النفاذة إلى لبلاب ملتف بأوراق قلوبية خضراء داكنة، جدران الدار في شغف، مكونة سياجًا طبيعيًا كثيفًا، كما لو كانت تسعى جاهدة لإخفاء هذا المكان عن العالم الخارجي، أو ربما لحمايته من عبث العابرين. في الليالي المقمرة، كانت ظلال هذه النباتات ترقص على الجدران في صمت، تخلق أشكالًا وهمية تزيد من غموض المكان وسحره الخفي.

قصص وحكايات الغموض

كان سكان الحي يتجنبون الاقتراب من هذه الدار المشؤومة. حتى الأطفال، الذين يملأون الأزقة عادة بصخبهم وضحكاتهم، كانوا يمرون بجانبها بخطوات مسرعة، وأعينهم زائغة، يتبادلون الهمسات الخافتة عن حكايات وروايات تناقلتها الأجيال عن أصواتٍ غامضة تنبعث من داخلها في ساعات متأخرة من الليل. كانوا يتحدثون عن أنين خافت يمزق سكون الليل العميق، أنين مكتوم يحمل في طياته وجعًا وأسىً لا يفهمونه. وكانت هناك حكايات عن امرأة شاحبة الوجه، ذات نظرة حزينة، تُرى أحيانًا خاطفة خلف زجاج النوافذ المتربة، قبل أن تختفي كطيف عابر.

نادر وفضوله الغريب

في أحد بيوت هذا الحي العتيق، الذي حافظ على روحه القديمة رغم التغيرات التي طرأت على المدينة من حوله، عاش نادر. شاب في أواخر العشرينيات، عاد لتوه إلى منزل عائلته بعد سنوات قضاها في صخب المدينة الكبيرة. كانت عودته محفوفة بالحزن، فقد رحلت والدته التي كانت تمثل له السند والأمان، تاركة فراغًا واسعًا ووحدة ثقيلة تغمر قلبه. لم يكن نادر من أبناء الحي الأصليين، لكنه نشأ وترعرع في أزقته، وعرف حكاياته وأسراره جيدًا. كان يتمتع بشخصية هادئة، قليل الكلام، يفضل التأمل والغوص في أعماق ذاته، باحثًا عن معنى خفي في روتين الأيام وصمت الليالي الطويلة.

كانت الدار المهجورة تستحوذ على جزء كبير من تفكيره، تثير فضوله بشكل غامض وعميق، رغم أنه لم يجرؤ قط على الاقتراب منها أكثر من اللازم. كان يمر بجانبها كل مساء في طريق عودته من عمله المتواضع، يحدق بها بهدوء، كأنه يستمع إلى نداء خفي يأتيه من خلف جدرانها الصامتة. كان يشعر بشيء ما يربطه بهذا المكان، شعورًا مبهمًا بالانجذاب والرهبة في آن واحد.

النداء الأول من ياسمين

وذات مساء، بينما كانت الشمس تنسحب ببطء خلف أسطح المباني القديمة، تاركة وراءها سماءً ملونة بألوان العقيق والعنبر الدافئة، توقف نادر فجأة. اخترق سمعه صوت ناعم، خافت، كهمسة رقيقة تخرج بصعوبة من بين شفتين مرتعشتين، قادمًا من وراء الجدار السميك للدار المهجورة. كان الصوت أنثويًا، يرتجف كغصن شجرة في مهب الريح، وكأنه يحمل في نبرته حزنًا عميقًا دفينًا، قصة لم تُروَ بعد.

اقترب نادر بحذر شديد، وكأنما يخشى أن يتبدد هذا الصوت الهش إذا تحرك بسرعة. وضع أذنه برفق على الطوب البارد الخشن للجدار، وهمس بصوت منخفض، يكاد لا يسمعه هو نفسه:
"هل يسمعني أحد؟ هل يوجد أحد هنا؟"

لحظات من الصمت المطبق مرت بثقل، كأن الزمن نفسه قد توقف ليستمع. ثم، رد الصوت المرتعش، أكثر وضوحًا هذه المرة، لكنه لا يزال يحمل تلك النبرة الحزينة:
"أنا هنا... نعم، أسمعك... هل تسمعني أنت؟ اسمي... اسمي ياسمين."

اللقاءات الليلية وحكايات ياسمين

شعر نادر بدقات قلبه تتسارع بقوة، كطائر مذعور يحاول الفرار من قفصه الصدري. مزيج من الخوف والدهشة اجتاحه، لكن فضوله المتأجج غلب كل مشاعر الوجل والتردد. بدأ يتحدث إليها بصوت خافت، يسألها عن حالها، ويطلب منها بلطف أن تخبره عن قصتها، عن سر وجودها خلف هذا الجدار الصامت.

ومع مرور الليالي، أصبح هذا اللقاء الخفي طقسًا معتادًا. كان نادر يتعمد التأخر في العودة إلى المنزل، ليقف بجانب الجدار وينتظر همسة ياسمين. كانت تحكي له بصوتها الرقيق عن أيام مضت، عن زمن كانت فيه فتاة عادية، مليئة بالأحلام والآمال. كانت تحب الشعر والكتب، تقضي ساعات طويلة على شرفة غرفتها المطلة على شجرة تين قديمة، كانت أغصانها المتشابكة ترسم ظلالًا متحركة على جدار غرفتها. كانت تكتب في دفتر أزرق صغير، تحفظ فيه خواطرها وأشعارها، وتحلم بعالم أجمل، عالم خالٍ من الحزن والوحدة. لكنها اختفت فجأة في ليلة مظلمة، ليلة لم تعد تذكر تفاصيلها بوضوح، دون أن تترك وراءها أي أثر يدل عليها.

السر والاختفاء

لم تكن ياسمين تعرف على وجه التحديد كيف اختفت، أو ما الذي حدث لها في تلك الليلة المشؤومة. كل ما كانت تتذكره هو أنها كانت تعيش هنا، في هذه الدار القديمة، والآن تجد نفسها محبوسة بين هذه الجدران الصامتة. كانت تشعر بأنها عالقة في مكان لا تعرف كيف دخلته، ولا تجد طريقًا للخروج منه.

سألها نادر في إحدى الليالي، وقد تجرأ فضوله أكثر:
"لماذا لا تخرجين يا ياسمين؟ لماذا أنت محبوسة؟ هل أنت... شبح؟"

ضحكت ياسمين بخفة، ضحكة حزينة باهتة، ثم أجابت بصوت هامس:
"ربما... ربما أكون كذلك. أو ربما أنا مجرد ذكرى باقية، صدى لأيام مضت، ذكرى تبحث عن أذن تصغي إليها، عن قلب يشعر بها."

البحث عن الحقيقة

زاد تعلق نادر بصوت ياسمين الغامض. كان يشعر أنه وجد في كلماتها، في نبرة صوتها الحزينة، شيئًا يشبه روحه المتعبة. لم يكن يشعر بالخوف منها، بل كان يشتاق لتلك اللحظات القليلة التي يبوح لها فيها بأسراره وأحزانه، ويجد لديها إصغاءً وتعاطفًا لم يجدهما في أي مكان آخر. كانت ياسمين تستمع إليه بصبر، ترد عليه بكلمات قليلة لكنها تحمل عمقًا وفهمًا غريبًا.

في صباح أحد الأيام المشمسة، قرر نادر أن يتجاوز تردده ويدخل إلى الدار المهجورة. دفع الباب الصدئ الذي انفتح بصرير مؤلم، كأنه أنين مكتوم لسنين من الإهمال. دخل إلى الداخل بخطوات مترددة، وتفحّص المكان بعينين قلقة. وجد الدار خالية تمامًا، لا يوجد أثاث، لا توجد صور على الجدران الباهتة، لا توجد حتى آثار للغبار المتراكم الذي يوحي بالسكن السابق. كان المكان يعبق برائحة الرطوبة والوحدة، وصمتٌ كئيب يخيم على كل زاوية.

صعد نادر إلى الطابق العلوي، وتجول في الغرف الخالية، باحثًا عن أي أثر يدل على وجود ياسمين، عن أي شيء يربطها بهذا المكان. لكنه لم يجد شيئًا. كانت الغرف موحشة، والنوافذ مغطاة بالغبار، والأرضيات مليئة بالشروخ. لم يكن هناك أي دليل على أن أحدًا قد عاش هنا منذ زمن طويل.

شعر نادر بالإحباط والارتباك. هل كان يتوهم كل شيء؟ هل كان صوت ياسمين مجرد صدى لأفكاره ووحدته؟ لكنه كان متأكدًا أنه سمعها، أنه تحدث إليها.

الشرطة وقصص الحي

قرر نادر أن يذهب إلى مركز الشرطة ليبلغ عن سماعه أصواتًا غريبة من الدار المهجورة. لكن رجال الشرطة سخروا منه، وظنوا أنه ربما يعاني من بعض الأوهام بسبب حزنه على والدته. أخبروه أن الدار مهجورة منذ أكثر من عشرين عامًا، بعد حريق مدمر قضى على معظم أجزائها.

لكن نادر لم يستسلم. بحث في الحي عن أي شخص قد يعرف شيئًا عن تاريخ هذه الدار. التقى برجل مسن يجلس على كرسي خشبي أمام بيته، يتأمل المارة بعينين ذابلتين. بعد حديث طويل، أخبره الرجل المسن بصوت خافت:
"ياسمين... نعم، أتذكرها. كانت فتاة شاعرة، حساسة، تعيش في تلك الدار مع والديها. اختفت فجأة ذات ليلة، منذ سنوات طويلة. قيل إنها ماتت في ذلك الحريق الذي شب في الدار. لكن... البعض كان يقول إنهم يسمعون صوتًا خافتًا ينبعث من بين الجدران في الليالي الهادئة."

الوداع والرحيل

تاه نادر في أفكاره. هل كان صوت ياسمين هو صدى لروح لم تجد السلام بعد؟ هل كانت محبوسة حقًا بين جدران الزمن؟

مرت الأيام ببطء وثقل، وحل فصل الشتاء ببرده القارس ورياحه العاتية. في إحدى الليالي الباردة، بينما كان نادر يعود إلى منزله، وجد ورقة صغيرة مطوية موضوعة بعناية على عتبة بابه. التقطها بحذر وفتحها. كانت مكتوبة بخط أنثوي رقيق:
"شكرًا لك يا نادر... شكرًا لأنك سمعتني، لأنك لم تسخر مني. الآن... الآن أستطيع الرحيل. لقد كنت عالقة ما بين الجدارين... لكن صوتك منحني الحرية."

شعر نادر بسكون عميق يغمره، إحساس بالسلام لم يعرفه من قبل. كأن عبئًا ثقيلاً قد رُفع عن صدره. نظر إلى الدار المهجورة، التي كانت تبدو أكثر سكونًا وظلامًا من أي وقت مضى.

الخاتمة

مرت السنوات، وتغير وجه الحي القديم. تهدمت الدار العتيقة، وبني مكانها مبنى حديث، لا يحمل أي أثر للماضي. لكن صوت ياسمين بقي محفورًا في قلب نادر، كذكرى عزيزة لا تُنسى. استلهم نادر من قصتها الغامضة، وكتب كتابه الأول بعنوان "صوت من خلف الجدار."

حين يسأله القراء في الندوات الأدبية: "هل هي قصة حقيقية؟ هل التقيت بتلك الفتاة؟" كان نادر يبتسم فقط ابتسامة غامضة ويقول بهدوء:
"لو أصغيت جيدًا... ربما... ربما لا يزال بإمكانك أن تسمع الجدار يتكلم."


بقلم: خواطر مزمل
تصفح المزيد من القصص

تعليقات