حين غنّى الراديو في ليل الريف السوداني

 

حين غنّى الراديو في ليل الريف السوداني

في زمنٍ لم تكن فيه الهواتف الذكية، ولا الإنترنت، كان الراديو ملك الساحة بلا منازع. في القرى السودانية، حيث الظلال طويلة والضوء شحيح في الليل، كان صوت الراديو ينبثق من بيوت الطين مثل سحرٍ قديم. كانت أصوات المذيعين، وأناشيد الصباح، والنشرات الإخبارية، وحتى فواصل الموسيقى، جزءًا لا يتجزأ من وجدان الناس.

أتذكّر بيتنا في الريف، قرب النهر. كان أبي يضع الراديو فوق صندوق خشبي قديم، ويجلس أمامه بتركيز شديد، كما لو كان يحاور أحدًا خلف الموجات. كل مساء، ننتظر نشرة الأخبار، ثم يأتي صوت فنان مثل سيد خليفة أو الكابلي، يغني للحب والوطن والناس. وحين تصدح أغنية "يا حنين" في السكون، كان البيت كله يصمت، كأنّ جدرانه تصغي.

الراديو لم يكن مجرد جهاز، بل ذاكرة صوتية تحفر داخل الروح. عبره عرفنا أخبار البلاد البعيدة، وحكايات المدن التي لم نزُرها بعد. وعبره عرفنا أن هناك صوتًا خارج القرية، يُشبه صوتنا لكنه يحمل العالم كله معه.

ذاكرة الجيران

في بيت الجيران، كان الراديو لا يُطفأ أبدًا. كل من يمرّ يسمع شيئًا: مدائح نبوية في الصباح، أغنيات الطمبور بعد العصر، وإذاعة لندن العربية في المساء. كانت أمّ "نعيمة" تحب برنامجا دراميا يُذاع كل خميس، وتقول: "هسّة الزمن بيهوِّن وأنا أسمع القصة دي". وكأنها تستعير من الحكاية حياة ثانية.

ليل الريف وصوتٌ لا ينام

في الليل، حين يصمت كل شيء، لا يبقى سوى الراديو. نضع رؤوسنا على الوسائد، والأصوات تتسلل إلينا عبر الهواء. أحيانًا يسبقنا النوم، لكن أصوات المذيعين تبقى تحرس الغرف. لا أنسى كيف كنت أفتح الراديو سرًا وأنا صغير، لأسمع أغنية أو ندوة أو حتى صوت المذيع يقرأ الأخبار، كأنني أكتشف سحرًا ممنوعًا.

لم يكن هناك زخم من القنوات، ولا تعدد من الآراء، لكنه كان كافيًا ليُشعرنا أننا لسنا وحدنا في هذا العالم. وكان يُعلّمنا أن الاستماع فن، وأن الكلمة المنطوقة تحمل في داخلها نبضًا لا تراه العين.

الراديو اليوم... هل يسمعه أحد؟

اليوم تغيّر كل شيء. صرنا نعيش في شاشات، نقرأ دون أن نصغي، ونشاهد دون أن نشعر. لم يعد الراديو يحظى بمكانه القديم، لكنه ظل في قلوبنا رمزًا للبساطة والعمق والدفء.

في بعض الأمسيات، أفتح تطبيق راديو على هاتفي، وأغلق عينيّ، وأتخيل أنني عدت إلى ذلك البيت الطيني، حيث كانت الريح تمرّ فوق سقف القش، وصوت المذيع يملأ الليل.

ربما التكنولوجيا تأخذنا بعيدًا، لكنها لا تمحو أثر الذكريات. فالراديو، ذاك الصديق القديم، سيظل يغني في ليل الريف، حتى لو لم نعد نصغي له بنفس الطريقة.


بقلم: مزمل عثمان

للمزيد من القصص السودانية الواقعية، إقراء أيضا كانت لنا أيام في ام القري

تعليقات